المدافعون المصريون عن حقوق الإنسان يعيشون أجواء الحرب

رجب سعد

في تقريره السنوي أمام الدورة الأخيرة لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، انتقد زيد بن رعد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، الانتهاكات الجسيمة التي تشهدها مصر، خاصة محاكمة العشرات من النشطاء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. وهو ما أثار غضب الحكومة المصرية، التي تتبنى فلسفة معادية لاحترام قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وترى فيها سببًا للفوضى، فقامت بتخفيض تمثيلها الدبلوماسي للوفد الرسمي في دورة مجلس حقوق الإنسان. فالحكومة المصرية تريد أن تمارس في هدوء انتهاكاتها لحريات التعبير والتنظيم والتجمع السلمي، وتعتبر أن سجن المدافعين عن حقوق الإنسان شأنا داخليًا لا يحق لأي شخص أو جهة انتقاده أو إزعاجها بسببه، سواء كان مواطنًا مصريًا أو المفوض السامي لحقوق الإنسان.

 وقد وصلت حدة التوتر بين الدولة والمجتمع المدني في مصر ذروتها في يونيو 2013، بعد حبس ثلاثة وأربعين من موظفي المنظمات غير الحكومية – مصريين، وأمريكيين، وألمان – لفترات تراوحت من سنة إلى خمس سنوات. وقد أظهر الحكم فيما عرفت بقضية “التمويل الأجنبي” حجم العداء تجاه منظمات المجتمع المدني، والتي لم تظهر أي تراجعاً عن نشاطها خلال السنوات التي تلت الحكم. وآخر التطورات في هذا الاتجاه كان احتجاز الحقوقي أحمد سميح، مدير راديو حريتنا ومعهد الأندلس لدراسات التسامح واللاعنف، فبعد مداهمة المحطة الإذاعية، وبعد استجواب العاملين بشأن انتماءاتهم السياسية، احتجز سميح خلال ساعات الليل. وقد أطلق سراحه بكفالة خمسة آلاف جنيه، ويواجه تهم “إنشاء محطة إذاعية وبث مواد على الإنترنت دون ترخيص.” وجاء احتجازه بعد أيام من توارد أنباء عن عرض مسودة قانون لجرائم الإنترنت للحصول على موافقة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

الحرب التي يشنها نظام 3 يوليو على المدافعين عن حقوق الإنسان تستخدم فيها أدوات وتكتيكات إعلامية وقانونية وأمنية. ففي ظل القبضة الأمنية التي تحكم البلاد والتضييق على حرية التعبير؛ بدأت أجهزة الإعلام والصحافة – سواء المملوكة للدولة أو لرجال الأعمال – حربًا شرسة لتشويه سمعة المدافعين عن حقوق الإنسان ووصمهم بالخيانة والتجسس لحساب الدول الغربية والعمل لمصلحة جماعة الإخوان المسلمين؛ برغم أنها نفس الأصوات الحقوقية التي دأبت على انتقاد الرئيس مرسي وكشفت بشجاعة العديد من انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة حكمه.

 وبعد أن كان الحقوقيين ضيوفًا دائمين في وسائل الإعلام منذ عهد مبارك؛ فإنه من الملاحظ الآن غياب شبه تام لهم في وسائل الإعلام. وكأن جهة ما أصدرت قرارا غير معلن بحظر التواجد الإعلامي للمدافعين عن حقوق الإنسان، سواء لمنعهم من الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان أو للرد على الاتهامات الموجهة لهم ولمنظماتهم. الحملة الإعلامية المنهجية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان دفع عدد منهم لإخبار عائلاتهم بأنهم تركوا العمل بالمنظمات الحقوقية. وذلك بعدما عبّرت هذه العائلات عن الخوف على أبناءها من التعرّض لخطر السجن والتعذيب، أو ساورت بعض الأسر الشكوك حيال طبيعة أنشطة أبناءها؛ متأثرين بحملة التخوين والكراهية التي تشنها وسائل الإعلام ضد المدافعين عن حقوق الإنسان.

المدافعون عن حقوق الإنسان وقانون التظاهر

أما بالنسبة للقيود القانونية والأمنية التي تستخدمها السلطة في حربها ضد المدافعين عن حقوق الإنسان فعلى رأس هذه القوانين، قانون تنظيم الحق في التظاهر، المخالف للمعايير الدولية، الذي استخدم في عقاب عدد من المدافعين عن حقوق الإنسان بالسجن لمدد متفاوتة، مثل يارا سلام وسناء سيف وعلاء عبد الفتاح. كما تلقت هند نافع، مسئولة برنامج المدافعين عن حقوق الإنسان بمركز هشام مبارك للقانون، حكما بالسجن المؤبد في القضية المعروفة إعلاميًا بقضية مجلس الوزراء.

وفي عشية ذكرى انتفاضة يناير قامت قوات الأمن باستخدام القوة لفضّ مسيرة سلمية وقتلت المدافعة عن حقوق الإنسان شيماء الصباغ. كما تم تحويل المدافعة عزة سليمان من شاهدة على مقتل شيماء الصباغ إلى متهمة في القضية، وذلك بعد إدلاءها بشهادتها أمام النيابة. سليمان وصفت ما حدث لها بأنه “لا يحدث هذا إلا في دول بوليسية استبدادية مثل مصر”.  

من حقوقيين إلى إرهابيين

يستخدم قانون تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين تعبيرات فضفاضة للغاية يمكن بسهولة أن تنطبق على المدافعين عن حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين السلميين. على سبيل المثال يجرّم القانون “الدعوة بأية وسيلة إلى تعطيل القوانين”، وهو ما قد ينطبق على المدافعين عن حقوق الإنسان المطالبين بوقف العمل بقانون الجمعيات أو قانون التظاهر ويعرضهم لخطر المثول أمام القضاء كإرهابيين.

وكان الرئيس السيسي قد قام أيضًا في أكتوبر 2014 بتعديل المادة 78 من قانون العقوبات، بزعم القضاء على مصادر تمويل الإرهاب. إلا أن التعديل في حقيقة الأمر جاء ليمثّل “نقطة تحول فى علاقة الدولة بالمجتمع المدنى ويعلق سيفا على رقاب ليس فقط العاملين فى الجمعيات الأهلية وإنما كل من له نشاط عام، بما فى ذلك الحزبى والنقابى والأهلى والاجتماعى” بحسب الوصف الدقيق لزياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء ووزير التعاون الدولي في أول حكومة شكلها نظام 3 يوليو.

وهكذا يعمل النظام على استخدام القانون لخنق المجال العام والإيقاع بالمدافعين عن حقوق الإنسان في براثن شبكة معقدة من القوانين الجائرة المعادية لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

مأزق المنظمات غير الحكومية في مصر

قبل نحو 6 شهور كان الجميع يترقبون يوم 10 نوفمبر 2014 الموافق لانتهاء المهلة التي منحتها وزارة التضامن الاجتماعي لمنظمات المجتمع المدني، لتوفيق أوضاعها والبدء في إجراءات التسجيل وفقا للقانون الحالي المرفوض من منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية، لكونه قانون يهدف لقمع أنشطة الدفاع عن حقوق الإنسان. بعض التوقعات ذهبت لإمكانية تعرّض مقار بعض المنظمات للاقتحام من قبّل قوات الأمن، فضلا عن البدء في إجراء محاكمات لقيادات الحركة الحقوقية. لكن مرور العاشر من نوفمبر دون حدوث التوقعات المتشائمة لا يعني أنها غير ممكنة مستقبلا. ما زال بإمكان الحكومة مداهمة مقرات المنظمات ومحاكمة النشطاء دون الإعلان عن أية مهلة. وهي الحقيقة التي أدركتها منظمات حقوق الإنسان المستقلة التي اتخذت استراتيجيات مختلفة لمواجهة المخاطر المتوقعة.

منذ الصيف الماضي بدأت المنظمات الحقوقية المستقلة، مع إدراكها لاقتراب الخطر، في اتخاذ إجراءات شملت التدريب القانوني لأعضائها وإعادة هيكلة برامجها، كما بدأت في الانتباه لأهمية توفير الأمن الرقمي للمدافعين عن حقوق الإنسان. وفيما دفعت التهديدات التي تعرّض لها المدافعون عن حقوق الإنسان إلى اتخاذ بعضهم قرار السفر والإقامة مؤقتا خارج مصر.

إن الأزمة التي تعرّضت لها المنظمات الحقوقية المستقلة مؤخرًا أثرت أيضًا على مصادر التمويل، وهو ما سيكون له بالتأكيد أثره على قوة ونشاط المنظمات.. ويتردد مؤخرًا أن عدد من جهات التمويل باتت تخشى من تمويل المنظمات المصرية؛ حتى لا تستحوذ عليها الحكومة وهي تقوم بتصفية وإغلاق المنظمات.

استراتيجيات المنظمات اختلفت في التعامل مع رغبة الحكومة في إجبار المنظمات الحقوقية على التسجيل القانوني وفقا لقانون مخالف للمعايير الدولية لحرية التنظيم. هناك من قام بتأسيس فروع خارج مصر ونقل بعض البرامج والأنشطة الرئيسية إلى دول أخرى، وهناك منظمات قررت أن تتقدم لتسجيل أنشطتها وفقا للقانون المعيب الحالي، مع إعلانها الاستمرار في العمل على إسقاطه إلى أن يستبدل به قانون ديمقراطي لتنظيم العمل الأهلي، فيما اتخذت منظمات أخرى قرارا بعدم التسجيل حاليا والتوسع في أنشطتها وافتتاح مكاتب إضافية.

لوهلة ظن البعض أن العاشر من نوفمبر 2014 سيكون بمثابة يوم القيامة والقضاء على الحركة الحقوقية في مصر؛ لكن الفترة الأخيرة شهدت عودة قوية لانتقادات الحركة الحقوقية المستقلة لانتهاكات الحكومة المصرية لحقوق الإنسان، وذلك بإصدار بيانات التنديد بممارسات التعذيب، والعنف الطائفي، والأكاديمي، وغيرها. كما لم تلتزم تلك المنظمات الصمت عندما استهدفت هي ذاتها من قبل السلطات.

الغرب مشغول في الحرب العالمية الجديدة على الإرهاب ويبدو أنه ليس مستعدا لإغضاب النظام المصري وداعموه في الخليج، وقد لاحظ الجميع عدم اكتراث الحكومات الغربية بأحكام السجن المتوالية للمدافعين عن حقوق الإنسان في مصر والضغوط التي تتعرض لها المنظمات الحقوقية مقارنة بفترات سابقة. وعبر وسائل الإعلام، يعكف كل من رجال الدين المتشددين والحكومات المستبدة على تشويه المدافعين عن حقوق الإنسان بسلاح التكفير الديني أو التخوين الوطني. هكذا؛ وفيما يمنع الضعف الشديد للأحزاب السياسية الديمقراطية من تقديم الدعم اللازم للمجتمع المدني، فربما يكون الخطر الأكبر المحدق الآن بالمدافعين عن حقوق الإنسان في مصر، ليس فقط أنهم يواجهون سلطة استبدادية معادية لمنظومة حقوق الإنسان، بل أنهم عزّل في هذه المواجهة ويفتقرون لأي دعم خارجي أو داخلي.

رجب سعد – كاتب وباحث في حقوق الإنسان

Image: Photo: Reuters/Yom al-Sabaa