رؤية اقتصادية لليبيا الجديدة

رؤية اقتصادية لليبيا الجديدة

إن قادة ليبيا الجديدة لم يفكروا في صياغة طريق من خلاله يمكن لليبيا الجديدة أن تتحرك للأمام، ففي ظل غياب هدف موحد فإن الدولة تنحدر إلى معركة صفرية النتائج بين القبائل والمجموعات الدينية والمحلية من أجل الحصول على ثروة النفط، هذا الانحدار تتزايد حدته بسبب مجموعة من العوامل، أهم هذه العوامل هو الصراع من أجل الموارد، كان الليبيون غاضبون بسبب عدم المساواة الكبيرة التي انتشرت خلال حكم نظام القذافي، وفي ظل غياب خطة صادقة لفترة ما بعد الثورة من أجل توزيع عادل لعائدات النفط، فإن مجموعات مختلفة تستخدم العنف من أجل الحصول على نصيبها من هذه العائدات، ولأن المظالم الاقتصادية هي في القلب من المشكلة الأمنية في ليبيا، فإن الوضع الأمني لا يمكن معالجته من خلال وسائل عسكرية فحسب، إن الحكومة الوطنية في حاجة إلى تقديم خطة اقتصادية من أجل كسر تفكير المباراة الصفرية الذي يسيطر على البلد، وفتح سبل جديدة لجهود إعادة الاعمار والمصالحة، والتي تعوقهما الصراعات حول الموارد المالية، إن الأمر الأكثر إلحاحا الآن هو رؤية اقتصادية واضحة من أجل مساعدة المواطنين، رؤية تجعل هؤلاء المواطنين راغبين في إقناع المليشيات برفع حصارهم عن صادرات النفط.

تميز نظام القذافي بنظام مركزي مختل لا يعمل بكفاءة، وشبكة من الوحدات البيروقراطية غريبة الأطوار صممت من أجل إخفاء وتحويل مسار عائدات النفط عند كل منعطف، فقد قام النظام ببناء قطاع عام متضخم إلى حد كبير يشمل مئات الالاف من المناصب التي كان يتم شغلها بناء على أهواء النظام، فالتقديرات على سبيل المثال تشير الى أن عدد المعلمين في ليبيا – التي يبلغ عدد سكانها حوالي 6 مليون نسمة – يبدأ من 400000 معلم، في الكثير من الحالات لم يكن الموظفين ملزمين بالذهاب إلى العمل من أجل الحصول على رواتبهم، لقد تم انشاء مجموعة من الصناديق الحكومية من أجل دفع نفقات الرعاية الصحية للفقراء والمحالين على التقاعد، إن هذه الأموال كانت تذهب إلى الموالين للنظام، كما أن الفساد الكبير الذي تخلل مدفوعات البينة التحتية خصوصا في المشروعات التي تمتلكها الدولة كان أحد الوسائل الأخرى التي من خلالها كان يقوم النظام بتحويل النفقات العامة إلى المقربين منه، حتى أن أموال دعم البنزين – الذي من المفترض أن يستفيد منها كل الليبيين – قد تم تحويل ملايين الدولارات منها إلى عمليات التهريب عبر الحدود، عمليات التهريب هذه استفادت منها القبائل الموالية للنظام، بصورة كبيرة هذا النظام مستمر في العمل، وما يزل يعمل كحافز للمليشيات لمحاولة انتزاع عوائد النفط قبل أن تصل طرابلس، ولحسن الحظ أن المواطنين ليسوا على استعداد للتوافق على تسوية مع المليشيات تستبدل ببساطة عائلة القذافي بهؤلاء الذين يستنزفون الأموال.

إن القيادة الوطنية لديها فرصة كبيرة لتعبئة الرأي العام خلف خطة واضحة من أجل تحقيق التوزيع العادل لعوائد النفط بين جميع الليبيين، ومن أجل أن تنجح هذه الخطة فإنها في حاجة لأن تكون عكس اقتصاد القذافي الموروث، فيجب أن تكون خطة تتميز بالشفافية واللامركزية والبساطة وتمكين القطاع الخاص، وأهم هذه العوامل هو أن الرأي العام في حاجة إلى أن يفهم ويستوعب هذه الخطة ويدعمها، لأن الرأي العام هو مصدر القوة التي يمكن استخدامها للضغط على المليشيات، كما أوضحت الأحداث التي وقعت في أواخر شهر نوفمبر.

الخطو الأولي معروفة، فلابد أن تكون هناك شفافية في الأموال العامة، خاصة تلك المرتبطة بعائدات النفط، فعائدات الدولة والموازنة والنفقات يجب أن يتم نشرها على شبكة المعلومات الدولية. ثانيا: الأموال والسلطات المسئولة عن تخصيصها يجب أن يتم نقلها للحكومات المحلية، من أجل أن تقوم بمهام الإدارة على المستوى المحلي مثل جمع القمامة وإصلاحات البنية التحتية والشرطة المحلية وغيرها من الوظائف الأخرى، هذه السياسة قد تبدو واضحة، إلا أن كل شيء في ليبيا ولوقت طويل كان يتم على المستوى المركزي وبطريقة مختلة غير كفئة، لدرجة أن كل الشئون المحلية تقريبا كانت تتطلب توقيع من العاصمة طرابلس، فالحكومة على المستوى القومي وحتى بعض الحكومات الأجنبية كانوا بصورة منتظمة يقترحوا وجود قوة شرطة على المستوى القومي وحتى عقود لجمع القمامة على المستوى القومي أيضا، هذه المحاولات غير المقنعة للمركزية نتج عنها انهيار في الخدمات على المستوى المحلي في جميع أنحاء الدولة، إن إعادة احياء هذه الخدمات من خلال تمويل كافي وتمكين المستويات المحلية للحكومة يمكن أن يؤدي بصورة سريعة إلى زيادة مصداقية الحكومة القومية.

ثالثا: على الحكومة القومية تخصيص مدفوعات مستمرة من عائدات النفط لكل المواطنين بناء على حجم العائلات التي ينتمي إليها هؤلاء المواطنين، هدف هذه المدفوعات هو أن تحل محل الشبكة غير الشفافة وغير العادلة للوظائف التي تقوم على المحسوبية وصناديق المدفوعات الاجتماعية ورواتب أفراد المليشيات والدعم الذي يعتبر مصدر دخل لغالبية الليبيين، حينما يتم تأسيس هذا النظام للمدفوعات ويتم البدء في دفع الأموال لعدة شهور، فإن الحكومة عليها أن تجمد المدفوعات المقدمة من الصناديق الاجتماعية، وبدأ عملية فصل الموظفين الدخلاء في القطاع العام، وإلغاء كل أشكال الدعم وتقليل رواتب أفراد المليشيات، إن مثل هذا الامر سيكون مكلف من الناحية السياسية، إلا أنه يمكن تحقيقه لو كانت المدفوعات كافية لتغطي كل الخسائر المحتملة عدا الرواتب الباهظة لأفراد المليشيات، فالمدفوعات البسيطة والمباشرة سوف تكون أقل تكلفة للحكومة من تلك المنظومة الفاسدة وغير الكفئة التي ستحل محلها، ومن ثم سـتكون هناك أموال أكثر لكي يتم توزيعها في النهاية.

رابعا: تعيين مدير برنامج تكون مهمته تنقية فوضى عقود مشاريع البنية التحتية وإعادة المشاريع المشروعة إلى المسار الصحيح، فقد أظهرت الفيضانات التى اجتاحت طرابلس في بداية ديسمبر وغمرت السيارات على الطرق السريعة أهمية تحسين البنية التحتية، وقد وقعت الحكومة عقدا مع شركة AECOM في 5 ديسمبر من أجل القيام بهذه المهمة، ولكن الحكومة في حاجة إلى الانتقال إلى مرحلة التنفيذ بسلاسة قبل أن يتم الاعلان عن أي نجاح.

خامسا: تقنين القطاع الخاص، فقوانين فترة حكم القذافي كانت مقيدة لدرجة أنها على المستوى الواقعي حرمّت المشاريع الخاصة، وفي بعض الحالات كانت قوانين فترة ما بعد الثورة أكثر تقييدا بصورة غريبة، إن الحكومة في حاجة لأن تدرك أنه تنقصها القدرة والنزاهة لإدارة القطاع الخاص على مستويات الادارة الصغرى، ومن ثم فإن عليها أن تقوم برفع غالبية القيود على قطاع الأعمال والاستثمارات المحلية والأجنبية، وليس إطلاق برامج جديدة غير مقنعة من أجل دعم مزاعم مبتذلة متعلقة بالتنويع الاقتصادي وريادة الأعمال، فكلا المبدأين جيدين إلا أنهما مرتبطين بالقطاع الخاص وليس بالقطاع العام، إن الحكومة سوف تكون منجذبة أكثر للحفاظ على وتوسيع متطلبات عملية اللبينة Libyanization، ومن ضمن هذه المتطلبات اشتراط حد أدنى من الاستثمارات الليبية والعمالة في الاستثمارات الأجنبية ومشاريع البينة التحتية، فمثل هذه السياسيات لها سجل سيئ حول العالم، وتتطلب مستويات من استثمارات رأس المال وعمالة مدربة، وهى أمور ليست متوفرة الآن في ليبيا، فالحكومة الليبية في حالة الاصرار على عملية اللبينة حتما ستكون المصدر الممكن الوحيد لاستثمارات رأس المال الليبي، وهذا الأمر قد ينتهي بامتلاك الحكومة الليبية لغالبية المشروعات، وفي ظل غياب العمالة الماهرة فإن الحد الأدنى من الوظائف المطلوبة لليبيين سوف يتم تلبيته من خلال علاقات المحسوبية مع العمال، والذين من المتوقع عدم ذهابهم للعمل، هذه ليست ليبيا الجديدة.
هذه خطوات دراماتيكية، ولكن العامة يريدون أن يروا تغييرات ثورية، وهذه الاصلاحات سوف تسهّل من عملية الحكم بصورة كبيرة، وما إن يتم تطبيقها سوف تؤدي الى تقليل الطلب على الحكومة القومية الضعيفة، هذه الإصلاحات أيضا سوف تكسر حالة سياسات المباراة الصفرية بين الأجنحة التي تتصارع حول الغنائم المتركزة في وزارات الحكومة في العاصمة طرابلس، كما أنها ستؤدي إلى وضع الموارد بالقرب من السلطات المحلية التي تمتلك القوة الحقيقية في ليبيا اليوم، وكما كان ظاهرا منذ الثورة فإن النجاح يعتمد على وجود القيادة، ومن ثم فإن أحدا – قد يكون رئيس الوزراء زيدان أو أي شخص أخر – يجب أن يعلن عن رؤية اقتصادية ذات مصداقية للشعب، والسعي إلى تحقيقها في مواجهة المعارضة التي لا مفر منها.

*نات ماسون ملحق تجاري سابق في السفارة الأمريكية في ليبيا، وهو مؤسس شركة Mason Trade Strategy LLC، وخدم ماسون أيضا كمسئول مكتب شمال افريقيا في وزارة التجارة الامريكية.

Image: Old Town, Benghazi, Libya, March 2009. (Photo: Wikimedia)