الإعدام؛ آثار المسار الخاطئ

الإعدام؛ آثار المسار الخاطئ

يوسف عوف

فصل جديد من فصول مسار الثورة المصرية في مرحلة ما بعد الثالث من يوليو للعام 2013، و عنوان هذا الفصل هو أحكام قضائية تصدر بإعدام المئات من أعضاء و أتباع جماعة الإخوان المسلمين في مصر. فبعزل محمد مرسي عن السلطة في التاريخ المذكور انفجرت الأوضاع السياسية ليتحول الأمر من محض خلافات سياسية إلى حالة من المواجهة العنيفة تسود المشهد و تتحكم فيه إلى حد كبير، و انتهى الأمر إلى دخول مصر في دوامة من الأعمال الإرهابية التي تخلف عنها العشرات من القتلى و المئات من الجرحى من كل الأطراف. ما يزيد الأمر تعقيدا هو أن هذه الأعمال الإرهابية تقع في ظل خلفية سياسية معروفة للجميع، أساسها التعصب و التحزب لكل طرف من طرفي الصراع السياسي في مصر. فالقطاع الكبير من المواطنين المؤيد للثالث من يوليو و الجيش المصري يرى أن جماعة الإخوان المسلمين هي المسئول الأول عن كل أعمال العنف التي وقعت و ما زالت تقع في مصر منذ يوليو من العام المنصرم، و ذلك دون حاجة لإصدار أحكام قضائية أو تحقيقات جنائية تثبت من المتورط تحديدا في أعمال العنف و الإرهاب هذه. على الجانب الآخر نجد أن جماعة الإخوان المسلمين و مؤيديها يعلنون أن رفضهم للانقلاب العسكري كان و سيظل سلميا و أنهم لا علاقة لهم بأعمال العنف هذه، بل يصل الأمر إلى أن يصرح الكثير من الرافضين للسلطة العسكرية في مصر إلى القول أن ما يحدث من أعمال عنف هو من فعل الجيش و الشرطة لتشويه صورة الإخوان المسلمين و كل الرافضين لنظام الثالث من يوليو.

 

في هذا السياق، حيث الانعدام الكامل للثقة في المناخ العام في مصر، جاءت أحكام محكمة جنايات المنيا يوم 24 مارس الماضي بإحالة أوراق 528 من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين إلى مفتي الجمهورية (قرار الإحالة للمفتي هو مقدمة لإصدار حكم بالإعدام)، ثم إصدار الحكم يوم 28 أبريل الجاري بتأكيد إعدام 37 و السجن المؤبد لعدد 491 متهما آخرين (خفف الحكم بشأنهم من الإعدام إلى السجن مدى الحياة). كما جاء قرار آخر من المحكمة ذاتها بإحالة أوراق 683 متهما من الإخوان المسلمين إلى مفتي الجمهورية ليسلط الضوء بشدة على الأحداث في مصر و عن مدى التزام الدولة المصرية بحكم القانون و ما إذا كان ما يجري بمصر ــ في ظل نظام الثالث من يوليو ــ انتقال ديمقراطي حقيقي أم لا. و لعل ما صدر من مواقف من بعض المسئولين الدوليين يدلل على حجم ردة الفعل السلبي للغاية تجاه ما جرى فعلى سبيل المثال عبر كي مون الأمين العام للأمم المتحدة عن “هلعه” من الأحكام، كما أصدرت العديد من الدول تصريحات عنيفة وصلت إلى حد المطالبة بإلغاء هذه الأحكام.

من الضروري ابتداء استعراض بعض الجوانب القانونية لهذه الأحكام، فطبقا للنظام القانوني المصري، لا تصدر أحكام قضائية بعقوبة الإعدام إلا بناء على إجماع آراء قضاة المحكمة الثلاثة، و ليست هناك أية أفضلية لرئيس المحكمة عن القاضيين الآخرين، فثلاثتهم سواء، و بالتالي فلا معنى من التركيز على شخص قاض بعينه بوصفه مصدر هذه الأحكام فهي صادرة عن “محكمة” لا عن شخص. و من ناحية ثانية، و لأسباب تاريخية معينة تتعلق بالشريعة الإسلامية، لابد قبل إصدار أحكام الإعدام أن تحال أوراق القضية كلها إلى مفتي الجمهورية (المنصب الديني الرسمي المختص بإصدار رأي الشريعة الإسلامية) لكي يستطلع رأي المفتي عن مدى شرعية إعدام المتهمين في القضية، إلا أن رأي دار الإفتاء غير ملزم للمحكمة. و يدل الواقع العملي أن كثيرا من المحاكم تغير قرارها بعد إعادة أوراق القضايا إليها من دار الإفتاء و تخفف العقوبات، و هذا هو ما حدث في قضية اتهام 528 من الإخوان، حيث كان القرار الأول بإحالة أوراقهم جميعا إلى مفتي الجمهورية (تمهيدا لإصدار الحكم بإعدامهم) ثم صدر الحكم من المحكمة (بعد أن أرسلت دار الإفتاء رأيها برفض إعدام غالبية المتهمين) بإعدام 37 فقط من أصل 528 و بالتالي تخفيف عقوبة 491 إلى السجن مدى الحياة.

أيضا، و بحسب النظام القانوني المصري، فإنه إذا صدر أي حكم قضائي بالإعدام من أي محكمة مصرية فإن الطعن عليه بالاستئناف يعد أمرا واجبا بموجب القانون، و ذلك لأن العقوبة شديدة و لا يمكن التراجع عن حكم الإعدام إذا نفذ، و لذلك قام النائب العام المصري بالطعن على حكم إعدام 37 شخصا الصادر يوم 28 أبريل الجاري و ذلك كالتزام قانوني. أما الطعن على أحكام الإعدام نفسها فإنه ينقل القضية إلى المحكمة الاعلى و هي محكمة النقض المصرية، و تدل الخبرة العملية على أن غالبية الأحكام الصادرة بالإعدام يتم نقضها و تعاد المحكمات فيها و يخفف حكم الإعدام. و تجدر الإشارة أخيرا إلى أن هناك ضمانة مهمة من حقوق المتهمين في القانون المصري هي أنه إذا حكم على متهم غيابيا (لم يحضر جلسات المحاكمة) كان من حقه بموجب القانون إعادة المحاكمة بشأنه إذا حضر للمحكمة، و هذه هي الحالة أيضا في قضية اتهام 528 من الإخوان المسلمين في المنيا حيث إن المتهمين الحاضرين فقط هم 147 من أصل 528 متهما، و هو ما يعني أن 381 متهما لم يحضروا المحاكمة و أن محاكمتهم ستعاد كاملة إذا أرادوا.

يبقى التساؤل عن سبب السرعة الشديدة لإصدار هذه الأحكام بإعدام المئات من أنصار الإخوان المسلمين. خلال شهر يناير الماضي، قرر وزير العدل المصري بالتشاور مع رئيس محكمة استئناف القاهرة تشكيل أو إنشاء دوائر (محاكم) خاصة لنظر قضايا الإرهاب، و قد أنشئت هذه المحاكم لنظر كل قضايا العنف و الإرهاب التي وقعت بعد 30 يونيو 2013 و ذلك لضمان سرعة المحاكمات و فاعليتها . و قد قامت محكمة جنايات المنيا (الدائرة المخصصة لنظر قضايا الإرهاب) بإصدار الحكمين الشهيرين (528 متهما و 683 متهما آخرين) بعد نظر كل قضية لمدة جلستين فقط أو أقل. يشار أيضا إلى أن شدة و جسامة الجرائم المرتكبة دفعت لتشكيل محاكم خاصة بمكافحة الجرائم الإرهابية نظرا لتأثيرها البالغ على الأمن العام و الرغبة الاجتماعية في توقيع العقاب على مرتكبي أعمال الإرهاب. فعلى سبيل المثال، القضية المتهم فيها 528 من الإخوان المسلمين منسوب إليهم الاعتداء على مركز شرطة، و اقتحامه و سرقة الأسلحة بداخله بالإضافة إلى قتل ضابط شرطة و الشروع في قتل آخرين و أخيرا إحراق مركز الشرطة.

يشير الكثيرين، في سياق التعليق على هذه الأحكام القضائية، إلى أن هذه الأحكام تعد دليلا واضحا على أن القضاء المصري أصبح قضاء مسيسا يخضع للسلطة الحاكمة و ينفذ أوامرها. بنظرة مدققة لهذه الأحكام القضائية و لمجمل الحالة الانتقالية في مصر منذ العام 2011، نرى أن هذه الأحكام القضائية، و رد الفعل بشأنها، دليلا قويا على أن القضاء المصري مستقل إلى درجة “الانعزال” عن باقي مؤسسات الدولة، فلا تستطيع سلطة أيا كانت أن تتدخل في أعمال محكمة ما، و الدليل على صحة ذلك يظهر من الإحراج الدولي الكبير الذي تعرضت له الحكومة المصرية على كافة المستويات منذ إصدار هذه الأحكام و السؤال هنا: ما الذي يدفع الحكومة أو النظام الحاكم لأن يضغط على محكمة ما لكي تصدر حكما قضائيا يضعها في هذا الحرج الدولي؟ إذن، الأحكام بالإعدام بشأن مئات من المنتمين للإخوان المسلمين ما هي إلا تعبير عن “قناعات شخصية” لقضاة المحكمة الثلاثة الذين أصدروا هذه الأحكام و رأوا أن ما ارتكب من جرائم يستحق العقاب بالإعدام طبقا لتفسيرهم للقانون.

إلا أنه بنظرة كلية لمجمل الموضوع، و بغض النظر عن نوايا الأشخاص و ما يجري في الغرف المغلقة، يقارن الكثيرين بين هذه الأحكام القضائية الأخيرة و بين التعامل القضائي مع القضايا المتعلقة بنظام حسني مبارك و رجاله، حيث لم تصدر أحكام بالإدانة على الغالبية من رجال نظام مبارك كما أن كثيرا من المحاكمات الخاصة بهم ما زالت قائمة منذ سنتين أو أكثر في الوقت الذي أدين فيه أنصار جماعة الإخوان المسلمين بهذه السرعة (جلستين قصيرتين) و الشدة في الأحكام (الإعدام). تشير هذه المقارنة لما يعرف “بالعدالة الانتقائية” و هي خطر كبير يهدد الثقة في القضاء و الإيمان بحياديته.

Image: Photo: Muslim Brotherhood leader Mohammed Badie, one of the 683 sentenced to death on April 28, shouts slogans from the defendant's cage during his trial with other leaders of the Brotherhood in a courtroom in Cairo December 11, 2013. Reuters/