دستور رد الفعل

دستور رد الفعل

 

أيام قليلة و يتوجه المصريون، للمرة الثالثة في أقل من ثلاث سنوات، إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم بشأن مشروع الدستور الجديد، و على الرغم من الأجواء السياسية و الأمنية الملتهبة التي تشهدها مصر في الأسابيع الأخيرة و هي ما ستجعل الاستفتاء، في حقيقته، بعيدا عن تقييم جودة النص الدستوري في ذاته، إلا أنه يظل مهما للغاية مناقشة مشروع الدستور نفسه من الناحية الفنية لأنه ما سيستمر معنا لسنوات قادمة برغم كل ما هو جار من أحداث. استقر مشروع الدستور المصري الجديد في 247 مادة، 42 مادة منها جديدة تماما لم يسبق النص عليها في أي من الدساتير المصرية السابقة بما فيها دستور 2012 المعلق. كما أنه تم اعتماد قرابة 30 مادة فقط من دستور العام 2012 كما هي دون تعديل، حين أن المواد الباقية جاءت مستوحاة من الدساتير المصرية السابقة جميعها مع إجراء بعض التعديلات عليها.

النظرة الكلية الأولية لمشروع الدستور تفيد أننا أمام دستور “رد الفعل”، ذلك أن مواضع كثيرة بهذا المشروع جاءت كرد فعل لما وقع من أحداث سياسية في مصر خلال عام من حكم الرئيس السابق محمد مرسي و جماعة الإخوان المسلمين. و هو ما ظهر أثره في مشروع الدستور الجديد بشأن موضوعات مثل القوات المسلحة و الشريعة الإسلامية و مدنية الدولة. كما أن السلطة القضائية كانت من بين هذه الموضوعات التي ظهر بشأنها تأثير رد الفعل. ذلك أن الصراع بين الرئيس السابق و المؤسسة القضائية لم يكن خافيا. و قد حفل هذا الصراع بمحطات عديدة كان أبرزها إعلان نوفمبر 2012 الدستوري الذي يعد المحطة الأكثر حدة في المواجهة مع القضاء. لم ينتهي هذا الصراع بعزل محمد مرسي في الثالث من يوليو، بل انعكست آثاره في مشروع الدستور الجديد، حيث تحصلت المؤسسة القضائية، لاسيما المحكمة الدستورية العليا، على وضع استثنائي.

تركزت معظم الامتيازات القضائية بحق المحكمة الدستورية العليا حيث يوجد العديد من التعديلات لاسيما ما يتعلق بعدد قضاة المحكمة و كيفية تعيين هؤلاء القضاة. فمن ناحية، ورد بالمادة رقم 193 من مشروع الدستور أن: “تؤلف المحكمة من رئيس و عدد كاف من نواب الرئيس” و هو ما يعني أن للمحكمة الدستورية نفسها أن تحدد عدد قضاتها بحسب ما تراه “كافياً”. هذا النص يمثل عودة لما كان عليه الوضع قبل إصدار دستور العام 2012 حيث كان عدد قضاة المحكمة الدستورية العليا غير محدد. إلا أن دستور العام 2012، في المادة 176 منه، كان قد اتخذ خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تحديد عدد قضاة المحكمة بأحد عشر قاضيا. ذلك أنه من الأهمية بمكان أن يكون عدد قضاة المحاكم العليا محدد على نحو معلوم سلفا ــ بموجب القانون أو الدستور ــ و ذلك لأسباب من بينها غلق الباب أمام اختيار قضاة بعينهم لنظر قضايا بعينها عن طريق رئيس المحكمة الذي تكون له سلطات في هذا الشأن، و ذلك لأن قانون المحكمة الدستورية قرر أن جلسات المحكمة تعقد بحضور سبعة قضاة فقط، لنظر أية قضية، بغض النظر عن كامل عدد قضاة المحكمة. تجدر الإشارة إلى أن تحديد عدد قضاة المحكمة هو الاتجاه السائد في غالبية الأنظمة القضائية المقارنة كالولايات المتحدة حيث تشكل المحكمة العليا من تسعة قضاة.
و من ناحية ثانية، فقد قررت المادة رقم 193 من مشروع الدستور أيضا أن تعيين قضاة المحكمة الدستورية العليا، سواء رئيس المحكمة أو نواب رئيس المحكمة، يكون عن طريق “اختيار الجمعية العامة للمحكمة” و المقصود بالجمعية العامة للمحكمة هم قضاة المحكمة أنفسهم. معنى هذا النص أن قضاة المحكمة الدستورية العليا هم من يعينون أنفسهم بأنفسهم من دون أي “مشاركة” في سلطة التعيين هذه لأن قرار التعيين و إن كان “يصدر” من رئيس الجمهورية إلا أن رئيس الجمهورية لا يملك رفض “اختيارات” الجمعية العامة للمحكمة و هو ما يعني أن قرار رئيس الجمهورية بالتعيين هو قرار شكلي فقط. ما تقدم مثالين على السلطة الممنوحة للجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا في مشروع الدستور، كما أن هناك سلطات أخرى تمتد لتشمل كل ما يتعلق بالمحكمة و عملها.

لا شك أن ما ارتكب من أخطاء في التعامل مع المؤسسات القضائية في عهد محمد مرسي كان متعددا و فادحا للغاية، إلا أن ذلك لا يبرر هذا “التراجع” في النصوص المتعلقة بالمحكمة الدستورية العليا في مشروع الدستور الجديد. فهذه السلطات الواسعة الممنوحة للجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا، في جوهرها، ترسخ “لاستبداد” المحكمة و تجعلها بمعزل كامل عن السلطتين التشريعية و التنفيذية. في هذا الإطار، فإن هذه السلطات الواسعة الممنوحة للجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا، فوق ما تقدم، تصطدم بنصوص مشروع الدستور الجديد نفسه. فقد قررت المادة رقم 5 من مشروع الدستور أن النظام السياسي يقوم على الفصل بين السلطات و التوازن بينها. بديهي أن هذه السلطات الواسعة للمحكمة الدستورية تعد انتهاك واضح لمبدأ التوازن بين السلطات الذي يستلزم نوعا من الرقابة المتبادلة بين السلطات الثلاث الرئيسية في الدولة.

لعل سببا رئيسيا من أسباب هذه النصوص الدستورية المتعلقة بالمحكمة الدستورية العليا و غيرها من نصوص “رد الفعل” في مشروع الدستور الجديد هو أنها جاءت تعبيرا عن الموقف العام لمؤسسات الدولة تجاه ما حدث إبان حكم محمد مرسي و بحسب دور كل مؤسسة إبان هذا الحكم. المشكلة في “حالة رد الفعل” هذه أنها تعد تعبيرا عن لحظة مجتمعية سادها الغضب و الرغبة في “الانقلاب” على تراث الماضي القريب بكل ما حواه من تفاعلات و تعقيدات مازات حاضرة في المشهد العام. فمن المعروف حجم الخلاف الواسع بين فريق المؤيدين للثالث من يوليو و فريق المعارضين له، و هو ما لم يكن يمثل لحظة مناسبة لكتابة نص دستوري جيد. كان الأمر يقتضي من واضعي مشروع الدستور و كاتبيه الارتفاع و السمو عن لحظة الانفعال المجتمعي هذه ــ بالرغم من صعوبة ذلك أو حتى استحالته ــ لأجل انتاج دستور لا يعبر عن لحظة استثنائية في عمر مصر و ثورتها.